قبل أحدى عشر عامًا، وبالتحديد في منتصف عام ٢٠١٣، غادرت وطني مبتعثًا الى الولايات المتحدة الاميركية، وكنت أظن، وقتها، بأنني سأبقى هناك ما بين العامين الى ثلاثة اعوام، واذا كثُرت وبالغت قليلاً (ولعّل والدتي ستسمح لي بذلك) بأن أوصلها الى الخمسة أعوام. الأمر المُفرغ منه هو أنني لم أخطط يومًا بأنني سأمضي وأسرتي عقدًا من حياتنا في تلك البلاد ، أبدًا. أتذكر مشاعري في تلك الأيام، رغم شغفي للعيش والدراسة في اميركا، الا إنني كنت اسأل نفسي: كيف سأقوى على هذا البُعد؟؛ كيف سأتحمل هذه الغُربة التي كنت دائما ما أسمع عنها، ممن سبقوني من أخوتي واصدقائي، بأنها مؤلمة جدًا.
ولكنّي حقيقةً منذ ان وطأت أقدامنا هذه الارض الجميلة، فلم نشعر يومًا بتلك المشاعر السلبية أبدًا. لم نشعر يوما بأننا غرباء في هذه البلاد، بل شعرنا براحة وانسجام مع هذا المكان وأهله. لقد كانت تجربة ابتعاثنا الى الولايات المتحدة فريدة من نوعها، تقاطعت فيها مسارات حياتنا مع العديد من الأشخاص من مختلف الجنسيات الذين أثّروا فينا بعمق؛ أناس جعلوا من رحلتنا في هذه البلاد لوحة زاخرة بالألوان الجميلة. في كل لقاء مع هؤلاء، كانت هناك حكاية جديدة نتشاركها معهم، وتجربة تضيف إلى رصيد حياتنا معرفةً وبُعدًا جديدًا.
خلال أحد عشر عامًا قضيناها في الولايات المتحدة، تعرفنا هناك على أصدقاء جمعتنا بهم الأقدار في هذه الأرض البعيدة. شهدنا قصصهم، وتحدّياتهم، وكيف تغلّبوا عليها بروح لا تعرف الهزيمة؛ رأينا فيهم من كافح وحارب ليُحقق أحلامه، ومن نال ما سعى إليه بجد واجتهاد بعد توفيق الله. لكل منهم قصّة تحمّل في طيّاتها الكثير من التفاصيل والمشاعر ما يكفي لكتابة كتاب. كانت حكاياتهم دومًا مصدر إلهام تضيء لنا طريقنا وتزيدنا قوّةً على قوّة. وكل هذه القصص، ممزوجةً، جعلتنا نشعر بأننا ننتمي الى هذا المكان حيث العلم والفرص اللامحدودة، لمن سعى الى ذلك سبيلا.
عشنا في الولايات المتحدة وتنقّلنا بين عدّة ولايات؛ بعضها جميلة جدًا مثل ولاية اوريغون والتي ينّبت بها الورد بين أرصفتها، ولو عاش بها الشعراء لتغنّوا بها وبجمالها وجبالها وشلالاتها. عشنا بها في مدينة بورتلاند حيث تعّرفنا بها على الثقافة الأميركية في منزل ناتاشا – ذو الأصول الروسية – والذي يقع بين غابات وتلال البالاتين وبحيرة أوسويغو.
وعشنا ايضا في ولاية تكساس العريقة حيث الاصالة والقّوة وحقول النفط الاميركية؛ عشت فيها بمدينة لوبوك -جنوب السهول العظمى في اميركا- لأدرس في جامعة تكساس تيك العريقة حيث أخذت بيدي الدكتورة “قريتا غورستش” في يومي الأول لتقودني الى أول فصل دراسي لي في مرحلة الدراسة الدراسات العليا؛ تلك التي أمنت بي في وقت كنت أشك فيه بقدرتي على خوض هذه المرحلة الصعبة، وكأنها منارة مضيئة في وسط بحر من الشكوك والاضطرابات.
في لوبوك، تعرّفت على عدد من الأصدقاء الذين كانوا رفقاء درب ومصدر دعم وإلهام؛ تبادلنا الأفكار والطموحات، وشاركنا في التحدّيات والمغامرات التي جعلت من رحلتنا في تكساس تجربة لا تُنسى، مليئة بالدروس والذكريات التي ستظل محفورة في ذاكرتنا إلى الأبد.
وعشنا أيضا في ولاية تينيسي، وخصوصًا في مدينة ممفيس المشهورة باحتلالها للمراكز الاولى بقائمة (أخطر) المدن الاميركية في كل عام!! وكما يُقال بأن الحب أعمى، فلا تستغربوا عندما نخبركم بأننا وقعنا في عشق ممفيس التي أكرمتنا كثيرًا بعد الله تعالى؛ عشنا بها ثمانية أعوام مليئة بالحياة والتجارب، حيث تلاقت فيها الأحداث والمواقف والقصص الثريّة لتُكوّن لنا صورة خاصة بنا عن ممفيس (نراها نحن ولا يراها غيرنا)، فلكل منّا ممفيس خاصّته.
ممفيس، المدينة التي شهدت ولادة ابننا ماجد، وحيث ابتدأ كل شيء في حياته – ضحكاته وخطواته وكلماته الأولى – وهو الذي يظنها العالم كله؛ يعرفها ويعرف حدائقها ومكتباتها وشوارعها. ممفيس، التي يسّر لنا الله فيها لقاء أصدقاء تجلّى فيهم معنى الوفاء الحقيقي؛ كانوا لنا سندًا وملاذًا بعد الله، يخففون وطأة الغربة، ويجعلوننا نشعر بأننا بين أهلنا وذوينا. إنهم أصدقاء استثنائيون يا ماجد، جعلوا من قصّتنا في ممفيس رحلة فريدة لا تُنسى، وذكريات تتردد أصداؤها في قلوبنا إلى الأبد.
ممفيس المدينة التي عرّفتنا على أنفسنا وعَرفنا فيها شواهق السعادة كما اختبرنا فيها أغوار الألم. في السنة الأخيرة لي هناك، وهي التي كنت أخشى فيها من الفراغ، أصبحت ممفيس محطة لتجارب جديدة في حياتي، تجارب لم أحلم يومًا بأن تكون جزءًا من مسيرتي. ممفيس لم تكن لنا مجرد محطة في مسارنا التعليمي، بل كانت مدرسة للحياة، حيث تعلمنا دروسًا عديدة تخطّت حدود الكتب والأبحاث الأكاديمية؛ نحب هذه المدينة كثيرًا،،، كثيرًا.
هنا أتوقف لأقول بأنني ربما تماديت قليلا، أو بالغت بوصف مشاعري لهذه المدينة!! كيف لا وكتابتي لهذه السطور نتيجة لحُرقة تنخر في صدري بسببها، صاحبتني طوال الأسابيع الماضية دون أن تجد لها مخرجًا. أشعر أن ممفيس خدعتني – نعم خدعتني! كيف لا وهي تتركني في صباح يوم جميل أذهب الى مطارها الدولي حاملًا بيدي تذكرة ذهاب فقط!! كيف لها أن تعاملني بهذه القسوة! كيف لها أن تُخبر جميع أصدقائنا فيها بأنه قد اقترب موعد الرحيل وحان لمراسم الوداع أن تبدأ؛ لأتلقى منذ أسابيع اتصالات ورسائل ومواعيد غداء وعشاء (وداعية) مؤلمة جدًا – بعضها قُمنا بتلبيتها، وبعضها هربنا منها لكيلا نعيش هذا الألم بتؤدة وقسوة. وكيف لنا أن نتحمل هذه اللقاءات ونحن نتذوق علقم الوداع في كل لقاء. وهذا كله في مراسم وداع الأصدقاء فقط، فلن أتحدث عن مراسم وداع الأماكن.
لن أتحدث عن بحيرات كوردوفا وشيلبي وذكرياتنا حول ضفافها، لن أتحدث عن شوارعها التي شهدت ضحكاتنا وأحاديثنا، ولن أذكر حدائقها التي احتضنت لقاءاتنا وأحلامنا. لن أتحدث عن الأوقات التي قضيناها في مقاهيها ومطاعمها، مستمتعين بكل لحظة، ولا عن جامعتها التي غذّت عقولنا بالعلم والمعرفة، ولن أتحدث عن مركزها الإسلامي، حيث كان يوم الجمعة المفضل لدى ماجد وأصدقائه، اليوم الذي تجتمع فيه العوائل مساءً، يلعب الأطفال فيه ويلتقي الأصدقاء. كيف لي أن أصف وداع هذه الأماكن التي صارت جزءًا من حياتنا وملاذًا لقلوبنا؟ تلك الأماكن التي تظل ذكرياتنا معلّقة بها، تشتاق إليها حتى ونحن على بعد آلاف الأميال.
في خضم هذه المراسم، كنّا نحاول بأن نهيئ أبننا ماجد على المرحلة الـمُقبلة، وهو الأخر لديه العديد من الأسئلة والتي بدأت تأتي منذ أن بدأ يرى معالم شُقتنا الصغيرة، في أحد أحياء كوردوفا، تختلف باختفاء ألعابه وذكرياته ومعالم غرفته يوما بعد يوم.. تقطّعت قلوبنا ونحن نتخلص من بعض الأمور التي كان بين ثناياها قصصًا عنوانها (الحياة).
كما كان لمشاعر لهفة البقاء حضورها، كان لشوق الرحيل ايضا نصيب كبير من مشاعرنا. حتما كنا نشتاق كثيرًا الى أهلنا ووطننا، فكُل من دخل منزلنا سيرى علمًا اخضرًا معلقًا في صدر المجلس؛ هذا العلم والذي يحمل راية التوحيد رافقنا منذ أول لحظات ابتعاثنا ليذكرنا بأن نحمد الله تعالى على هذا الوطن الذي لولا الله ثم الدعم الذي تلقيناه أنا وزوجتي كوننا (سعوديون)، لم نصل الى ما وصلنا اليه؛ كان يأتي مع هذا الدعم الذي تلقفته وزوجتي اثناء فترة ابتعاثنا شعورًا بالمسؤولية بأن الوطن ينّتظر منّا الكثير، وهو ما نسأل الله تعالى دوما أن يعيننا على سداد غيض من فيض خير هذه البلاد علينا.
أحمل بيدي تذاكر سفرنا من جدة الى المدينة المنورة والتي ستقلع بعد وصولنا الى جدة بساعتين بمشيئة الله. مازلت غير مصدقًا بأننا سنعود الى المدينة المنوّرة، سنعود الى طيبة الطيبة، سنعود الى سيدة البلدان؛ كانت قناة السنة النبوية دائما قناتنا المفضلة؛ تنتابني حاليا مشاعر جميلة بأنني لن أكون مضطرا بأن أشرح لأبني، من خلف الشاشة، عن عظمة هذا المكان والنعمة التي رزقها الله والديه بأن جعل المدينة المنوّرة مسكنهم (وبإذن الله مدفنهم). مازلت غير مصدقا بأنني سأعود الى تلك الحرة الغربية التي حضنت ذكريات طفولتي؛ سأعود اخيرًا الى أمي وأبي وأخوتي؛ سأعود اليك يا أمي، يالله ما أكرمك!! الحمدلله، الحمدلله، الحمدلله.
هذا هو الحُلم الكبير. هذه هي الرحلة المنتظرة يا رفيقة دربي، يا أم ماجد، هذه الرحلة التي وعدتك بها قبل أحدى عشر عامًا عندما أقلعت طائرتك الأولى من مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز في المدينة المنورة، وكنت أرى في عينيك ألف سؤال بدون أجابة. هذه هي الرحلة التي نعيشها الان وأنا أكتب هذه السطور على متن طائرة الخطوط السعودية والتي انطلقت من مطار واشنطن الى مطار الملك عبدالعزيز في جدة، ومنها الى المدينة المنورة حيث ينتظرونا أهالينا ليستقبلونا ويحتفوا بنا.
هذه هي الرحلة المنتظرة يا ماجد، ستعود الى أرضك وأرض اجدادك، لقد أخبروني بأنهم ينتظروك في المطار واللهفة تكاد تنطق من أعينهم؛ ينتظروك بقلوب تفيض بالشوق، وأعين تلمع بالحنين؛ ينتظروك وهم حاملين الورود ومعهم العاب من نوع “المونستر تركس” لعلمهم بأن والديك قد تخّلصا من العابك المفضلة. يا ماجد، إنها رحلة العودة إلى الجذور، إلى المكان الذي تنتمي إليه، حيث ستكتشف جزءًا جديدًا من هويتك. هذه ليست مجرّد رحلة، بل هي رحلة إلى القلب، إلى الروح، إلى المدينة المنورة.
هذه هي مراسم الوداع لهذا الجزء من حياتنا، وها نحن نعيش مرحلة الخروج من حال الى حال، الخروج من شرنقة الابتعاث الى رحابة الاستقرار. أسأل الله تعالى أن يعيننا على الحنين لتلكم الأيام، وأن ييسر لنا بداية جديدة تحمل في طيّاتها الخير والبركة، وأن يجعل لنا من الاستقرار نصيباً يملأ قلوبنا بالرضا والسعادة. آمين.
هذه قصة من قصص (الولايات المتحدة الساحرة)؛ هذه قصّتنا والتي سنظل نتذكرها ونُسلّي أنفسنا بها ونشكر الله عليها دومًا ما حيينا. الحمدلله حمد الشاكرين، والحمد لله في كل وقت وحين، الحمد لله حمدا على كل النعم، اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد اذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى.
أنتهى،،،
سعد المغامسي
٢ يونيو ٢٠٢٤
على متن رحلة الخطوط السعودية رقم SV36
الحمد الله على وصولكم أرض الوطن ولقاء الاهل وهم بصحة وعافية من الله
شكرًا على لطفك ودعواتك الجميلة دكتور الخلف، أكرمتني بوقتك الثمين؛ وممتن لك.
الحمدلله على سلامة الوصول دكتور سعد ونورت أهلك وحبايبك وأعانك الله على فراق ممفيس
شكرًا جزيلًا على كلماتك الطيبة أخي محمد. ممتن لوقتك الثمين، ودمتم بحفظ الله
يا دكتور هل تعرف احد من اقارب شخص اسمه نادر اسعد معلا المغامسي مفقود وابحث عن اي شخص من اقاربه ابلغه